سورة القصص - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


يقول الحق جل جلاله: {إنك} يا محمد {لا تهدي من أحببتَ}، أي: لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم، يعني: أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق، ولو كان أكمل الخلق. {ولكنَّ الله يهدي من يشاء}؛ يخلق الهداية في قلب من يشاء، {وهو أعلم بالمهتدين}؛ بمن يختار هدايته ويقبلها.
قال الزجاج: اجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تُفلحوا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عَمّ تأمُرُهُم بالنَّصِيحة لأنفسهم وتَدعُها لنفسك!» فقال: ما تريد يا ابن أخي؟ فقال: «أُريدُ منك أن تقُول: لا إله إلا الله، أشْهَدُ لك بها عِنْدَ اللهِ» فقال: يا ابن أخي؛ أنا قد علمت أنك صادق، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. اهـ. وفي رواية قال: (لولا أن تُعيرني نساء قريش، ويقلن: إنه حملني على ذلك الجزع، لأقررتُ بها عينك). وفي لفظ آخر عند البخاري: قال له: «يا عم، قُل: لا إله إلا الله، أُحاجُّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: بل على ملّة عبد المطلب، فنزلت الآية.
وفيها دليل على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الله الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية؛ وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وبالله التوفيق.
الإشارة: الآية ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته، كتب شيخ أشياخنا، سيدي أحمد بن عبد الله، إلى شيخه، سيدي أحمد بن سعيد الهبري؛ يشكو له ابنه؛ حيث لم ير منه ما تقر به عينه، فكتب إليه: أخبرني: ما الذي بَنَيْتَ فيه؟ دع الدار لبانيها، إن شاء هدمها وإن شاء بناها. اهـ. وفي اللباب- بعد كلام-: قد رضي الله على أقوام في الأزل، فاستعلمهم في أسباب الرضا من غير سبب، وسَخِطَ على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب السَّخَطِ بلا سبب. {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125] الآية.
وهذه الآية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: {إنك لا تَهْدي من أحببت}، والحكم عام في كل أحد، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأتم الفضائل وأعلى الوسائل، حتى لم يُسْبَقْ لفضيلة، ولم يَحْتَجْ لوسيلة، وليس في ذلك نظر، بل سابقة السعادة أيدته، والخصوصية قرَّبته، ولو كان له في التقدير نظر ما مُنع من الشفاعة في عمه أبي طالب، ومن الاستغفار لأبيه. ولو كانت الهداية بيد آدم لهدى قابيل، ولو كانت بيد نوح لهدى ولده كنعان، أو بيد إبراهيم لهدى أباه آزر، أو بيد محمد صلى الله عليه وسلم لأنقذ عمه أبا طالب، جذبت العنايةُ سلمان من فارس، وصاحت على بلال من الحبشة، وأبو طالب على الباب ممنوع من الدخول. سبحان من أعطى ومنع، وضر ونفع. اهـ.


قلت: {رزقاً}: حال من {الثمرات}؛ لتخصيصه بالإضافة، أو مصدر لتجبى؛ لأن معناه: نرزق، أو: مفعول له.
يقول الحق جل جلاله: {وقالوا} أي: كفار قريش {إن نتبع الهُدَى} وندخل {معك} في هذا الدين؛ {نُتَخَطّفُ من أرضنا} أي: تخطفنا العرب وتُخرجنا من أرضنا.
نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف، إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكَلَةُ رأس، أَنْ يتخطفونا من أرضنا، فردّ الله عليهم بقوله: {أوَ لَمْ نُمكِّنْ لهم حَرَماً آمناً}؛ أَوَ لَمْ نجعل مكانهم حرماً ذا آمن بحرمة البيت، يأمن فيه قُطانه، ومن التجأ إليه من غيرهم؛ فَأَنَّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف، ونسلبهم الأمن، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟.
{تُجْبَى إليه}، أي: تُجمع وتُجلب إليه من كل أَوْب، {ثمراتُ كل شيء} أي: كل صنف ونوع. ومعنى الكُلِّيَّةِ: الكثرة؛ كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، {رزقاً من لدُنَّا}، ونعمة من عندنا، وإذا كان حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام، وتدرعوا بلباس التوحيد؟
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي: جهلة، لا يتفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته، إن أسلموا. وقيل: يتعلق بقوله: {من لدُنَّا}، أي: قليل منهم يتدبرون، فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله؛ وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولو علموا أنه من عند الله؛ لعلموا أن الخوف والأمن من عند الله، ولَمَا خافوا التخطف إذا آمنوا به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ترى كثيراً من الناس، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية، يتعلل بهذه العلل الواهية، يقول: إن دخلنا في طريق القوم؛ رفضَنا الناس، وأنكر علينا أقاربنا، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم: أو لم أُمَكِّن لأوليائي، المتوجهين إلى حَضْرَةِ القدس، حرماً آمناً تُجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب، بلا حرص ولا طمع ولا سبب، ولكن أكثر الناس؛ جهالاً بهذا، وقفوا مع العوائد، فحُرموا الفوائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


قلت: {كم}: منصوب بأهلكنا. والبطر: الطغيان عند النعمة. قال في القاموس: البَطَر- محركة: النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش، والحيرة، والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية، فعلى الكل: كفرح. اهـ. و{معيشتها} نصب بحذف الجار واتصال الفعل، أي: في معيشتها. وجملة {لم تسكن}: حال، والعامل فيها: الإشارة.
يقول الحق جل جلاله: {وكم أهلكنا من قرية}، أي: كثيراً أهلكنا من أهل قرية، كانت حالهم كحالهم في الأمن والدعة، وخصب العيش، مِنْ وصفها {بَطِرَتْ} في {مَعِيشَتها}، أي: طغت وتجبرت ولم تشكر، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري: لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أموالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوهم، وخَرُّوا في وَهدة الطغيان على أذقانهم، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم.
{فتلك مساكنهم} خاوية، أو: فتلك منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار؛ كبلاد ثمود، وقرى لوط، وقوم شعيب، وغيرهم، {لم تُسكن من بعدهم إلا قليلاً} من السكنى، أي: لم يسكنها إلا المسافر، أو مار بالطريق؛ يوماً أو ساعة، {وكنا نحن الوارثين} لتك المساكن من سكانها، أي: لا يملك التصرف فيها غيرنا. وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى، وأن الوراثة له، لا أنه يتخطف كما قد قيل، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله، ويتبع هواه، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار؟ والحاصل: إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى، فإنه الذي جرت سنة الله في بالهلاك، وأما متبع الهدى؛ فهو آمن والعاقبة له.
{وما كان ربك}؛ وما كانت عادته {مُهلك القرى} بذنب {حتى يبعث في أُمِّها}، أي: القرية التي هي أصلها ومعظمها؛ لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. {رسولاً}؛ لإلزام الحجة وقطع المعذرة، أو: ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها، وهي مكة؛ لأن الأرض دحيت من تحتها. {رسولاً} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، {يتلوا عليهم آياتنا}؛ القرآن، {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلُها ظالمون}، أي: وما أهلكناهم للانتقام، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي، والعناد، بعد الإعذار إليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10